القاهرة
في لحظة مفصلية على الساحة الدولية، أكدت مصر بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي مرة أخرى أن أمنها القومي خطّ أحمر لا يقبل المساومة. هذا الموقف الصامد كان واضحاً في تحركات القاهرة الدبلوماسية وعلى طاولات القرار، حيث تتجه الأنظار اليوم نحو إعلان نيويورك الذي أقر بأغلبية ساحقة باعتباره خارطة طريق مرحلية وقابلة للتنفيذ نحو حل الدولتين وإنهاء الحرب.
ما هو إعلان نيويورك وما الذي يفرضه؟
إعلان نيويورك يدعو إلى خطوات ملموسة ومحددة زمنياً ولا رجعة فيها لإيقاف النار، الإفراج عن الأسرى، وبدء مسار سياسي يفضي إلى دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. الإعلان أيضاً يشدد على فتح المعابر، ضمان وصول المساعدات الإنسانية، ورفض التهجير القسري.
المعضلة الفلسطينية الداخلية: نهاية الانقسام شرط التنفيذ
من بين بنود الإعلان الأكثر حساسية أنه يطالب بتوحيد مؤسسات السلطة الفلسطينية في الضفة وغزة، وتسليم السلاح للسلطة، ونزع سلاح الميليشيات المسلحة، وهو ما يضع حركة حماس أمام معادلة إما الانضمام إلى مشروع سياسي مؤسسي أو الانسحاب من المشهد السياسي والعسكري. هذا الشرط أثار قلقاً لدى أنصار الإخوان وداعمي الفصائل المسلحة، لكنه يمثل بالوقت ذاته شرطاً أساسياً لضمان دولة فلسطينية ذات سيادة.
الموقف المصري: ضمانة لمنع التهجير وحماية القدس
لم تكن القاهرة غائبة عن بلورة هذه الصيغة؛ فقد كانت مصر واضحة في إصرارها على رفض أي تهجير للفلسطينيين وضرورة أن تكون القدس الشرقية جزءًا لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية المستقبلية. تصريحات رسمية للرئيس السيسي نادت بضرورة الحفاظ على الأمن القومي للمنطقة ووضعت خطوطاً حمراء واضحة فيما يتعلق بأمن مصر ومحيطها الإقليمي.
تداعيات إقليمية مباشرة: من ليبيا إلى السودان وإثيوبيا
إعلان نيويورك، إذا ما طُبّق على أرض الواقع وبمساندة دولية فعّالة، لا يغيّر مشهداً فلسطينياً فحسب؛ بل سيترك انعكاسات كبيرة على خريطة القوة الإقليمية:
• تفكيك الميليشيات في ليبيا: المسار الدولي نحو استقرار فلسطيني موحّد يقوّي منطق الدولة والمؤسسات، وهو نفس المنطق الذي يدعم جهود إعادة توحيد مؤسسات الدول المنهكة وتقويض منطق الميليشيات كأداة للنفوذ. في ليبيا، جهود القضاء على الميليشيات وإدماجها ضمن مؤسسات الدولة مستمرة، وإحداث زخم دولي جديد لقضية الاستقرار الفلسطينية قد ينعكس إيجابياً على عزيمة المجتمع الدولي للتعامل بصرامة أكبر مع مسألة التسلّح غير النظامي وميليشيات الساحة الليبية.
• انتهاء دور الدعم السريع في السودان: بند توحيد السلاح والسلطة وقَطع شرعية الميليشيات يحيل الحديث مباشرة إلى السودان حيث تعمل قوات الدعم السريع كقوة موازية للدولة. ضغط دولي قوي يسعى إلى حصر السلاح تحت مؤسسات الدولة سيضع قوات مماثلة مثل الدعم السريع في مواجهة عزلة دولية متجددة وإجراءات استرداد الشرعية لصالح القوات المسلحة والمؤسسات المدنية الشرعية. وضع كهذا يزيد من فرص المساءلة الدولية ويقوّض فرص بقاء ميلشيات خارج القانون.
• ورطَة إثيوبية متزايدة دولياً في ملف السد: في نفس الوقت، تضع المعادلة الجديدة القاهرة في موقع تفاوض أقوى بشأن ملف مياه النيل والسد الإثيوبي؛ فإثيوبيا التي دخلت في نزاعات قانونية ودبلوماسية طويلة مع دول المصب، قد تجد نفسها أكثر عرضة لضغوط ومساءلات دولية، لا سيما على خلفية الخلافات المتواصلة مع مصر والسودان حول آثار السد على الأمن المائي. أي تزايد للعزلة الدولية بشأن قضايا الأمن الإقليمي قد يدفع بالقضايا المتصلة بالسد إلى مزيد من التداعي القانوني والدبلوماسي.
هل يمكن أن تتحقق هذه السيناريوهات؟
التحدي الحقيقي يكمن في التنفيذ: الإعلان ووضعه في إطار زمني واضح خطوة مهمة، لكن تطبيقه يتطلب آليات رقابية دولية، ضغطاً دبلوماسياً متزامناً، وإرادة محلية فلسطينية توحّد الصفوف. كما يتطلب تراكمًا عمليًا في ملفات الأمن الإقليمي (ليبيا، السودان، وغيرها) حتى يتحول التصور النظري إلى واقع ملموس على الأرض.
خاتمة
إعلان نيويورك قد لا يكون حلاً نهائياً لكل الملفات، لكنه يمثل نقطة تحول استراتيجية حقيقية. في ظل موقف مصري صامد يرفض التهجير ويطالب بسيادة فلسطينية كاملة على حدود 1967، ومع رغبة دولية جديدة في تحييد الميليشيات وضمّن مناطق الفوضى إلى منطق الدولة، يمكن أن نكون أمام فرصة تاريخية لإعادة ترتيب الأمن الإقليمي: فلسطين موحدة ودولة تُستعاد سيادتها، وليبيا وسوداناً وأدوات الفوضى تُعالج عبر سياسات صلبة ومساندة دولية، بينما تُصبح خيارات أثيوبيا أحادية الجانب في ملف السدّ محل تدقيق ومساءلة دولية متزايدة.
حفظ الله مصر وشعوب المنطقة؛ ومهما طال الطريق، فإن إرادة الدولة والشعوب لا تُقهر
بوابة الأخبار العربية تأسست وكالة A N G عام 2009 على يد الفنان والكاتب الصحفي ناصر عبد الحفيظ 