اخبار عاجلة

*الوطن… حين يصبح القلب خارطته* بقلم محمود إمجبر

*الوطن… حين يصبح القلب خارطته*

كنتُ ولا أزال الابن البار لتلك البقعة التي تُدعى _الوطن_. لا أراه مجزّأ، ولا أطيق له نقصاً، بل أراه كما يجب أن يكون: كاملاً، متماسكاً، نابضاً بالحياة من أقصاه إلى أقصاه.

الوطن ليس مجرد حدود مرسومة على الورق، بل هو جبال نفوسة التي تهمس للحالمين، ووديان سوف الجين التي تروي حكايات الأجداد، وهضاب العزيزية التي تقف شامخة كأنها تحفظ ذاكرة الأرض. هو كهوف غريان التي تخبئ أسرار الزمن، وسهول المرج التي تفتح ذراعيها للريح، وشلالات درنة التي تغسل أرواحنا كلما ضاقت بنا الحياة.

الوطن هو كيش بنغازي، حيث نلعب ونمرح، ونشرب النعناع من قمينس وكأننا نرتشف من نبع الهوية. أراه مكتملاً في دار السلام طبرق، وعلى جنبات أمساعد وبئر الأشهب، حيث يلتقي البحر بالصحراء، وتتنفس الأرض بملء رئتيها.

أنا لا أكون إلا حيث يكون تراثنا، حيث فنون مرزق وأم الأرنب وزويلة، حيث الأصالة تنسج خيوطها في كل رقصة، وكل نقش، وكل أغنية. ستجدني واقفاً احتراماً لأهلي في تمسة ومجدول ومسقوين وأم زوير، أولئك الذين يزرعون في الأرض معنى الكرامة، ويعلّموننا كيف نكون أبناءً حقيقيين للوطن.

رجال صدقوا الله في ترهونة وزليتن والخمس وامسلاتة وسرت والقربولي، هم الذين يكتبون سيرة الوطن بدمهم وعرقهم، وأصدق البشر هم أولئك الذين يرسمون لوحة ليبيا كاملة في جبال أكاكوس، وواو الناموس، وبحيرات قبرعون… حيث تتنفس الطبيعة بلغة لا يفهمها إلا من أحبّ الأرض بصدق.

ولكي لا أطيل عليكم، دعوني أقولها بوضوح: علينا جميعاً أن نمدّ الأيادي البيضاء لأبناء سوكنة وهون وودان والفقهة، فهم الذين يربطون أوصال الوطن، ويخيطون جراحه، ويعطوننا من الدقلة والخضراي وأم حليمة ما يكفي لنحيا ونحلم ونواصل الطريق.

الوطن ليس مكاناً نعيش فيه فقط، بل هو كيان نعيش لأجله. هو نحن، بكل تنوّعنا، بكل لهجاتنا، بكل اختلافاتنا التي تصنع وحدتنا.
ليبيا… لوحة لا تكتمل إلا بكل نقطة لون فيها، وكل نبضة قلب تنتمي إليها.
لكن الوطن ليس فقط تضاريس تُعانق السماء، ولا مدنٌ تُزهر في الذاكرة، بل هو ذلك الشعور الذي يسكننا حين نسمع صوت المزمار في عرسٍ فزاني، أو نرى طفلاً يركض خلف طائرة ورقية في شوارع البيضاء، أو نلمح امرأةً تُنقّي القمح في باحة بيتها في غدامس، وكأنها تُنقّي التاريخ من شوائبه.
الوطن هو تلك التفاصيل الصغيرة التي لا تُكتب في الدساتير، لكنها تُحفر في القلب: رائحة الخبز في صباح سبها، صوت المؤذن في ليل غات، ضحكة الجدّات في سوق الكفرة، وحنين المغتربين حين يذكرون “اللمة” في رمضان.
هو ذلك التناقض الجميل بين صمت الصحراء وضجيج المدن، بين زرقة البحر وذهبية الرمال، بين لهجة الشرق ونغمة الغرب، بين رقصة التبو وغناء الأمازيغ… كل هذا لا يُفرّقنا، بل يُشكّلنا، ويجعلنا نُدرك أن الوطن ليس ما نختلف فيه، بل ما نتفق عليه دون أن نتكلم.

الوطن هو ذاكرة الأجيال، حين يروي الجدّ للأحفاد كيف كانت ليبيا قبل النفط، قبل الخرائط، قبل أن تُقسم الأرض وتُرسم الحدود. هو الحكاية التي تبدأ من خيمة في الصحراء، ولا تنتهي حتى في أعلى برج في طرابلس.

وإن سألتني عن الوطن، سأقول: هو ذلك الحنين الذي لا يُشفى، ذلك الانتماء الذي لا يُشترى، ذلك الحب الذي لا يُفسَّر. هو نحن، حين نُحب بعضنا رغم كل شيء، حين نُغفر، ونُصلح، ونبني، ونحلم.

فليبيا ليست فقط وطنًا نعيش فيه، بل وطنٌ يعيش فينا، يكتبنا كما نكتبه، ويُعيد تشكيلنا كلما ظننا أننا اكتملنا.

فلنُدرك جميعًا أن الوطن لا يُبنى بالحجارة وحدها، بل تُشيّده القلوب حين تتصافى، والعقول حين تتلاقى، والأيادي حين تمتدّ لا لتصافح فقط، بل لتزرع وتُداوي وتُعانق.

دعونا نُعيد رسم ليبيا كما نحبّها: متّحدة، متنوّعة، متألقة، لا شرق فيها يُقصي غربًا، ولا جنوب يُهمّش شمالًا. دعونا نُعلّم أبناءنا أن حبّ الوطن لا يكون في الشعارات، بل في الأفعال، في احترام الآخر، في حفظ التراث، في صون الكلمة، وفي بناء الجسور لا الجدران.

ليبيا تنادينا… فهل نُجيب؟
تنادينا من بين ركام الخلافات، من خلف ستار الألم، لتقول: أنا لكم، فكونوا لي.
فلتكن كل قرية، كل مدينة، كل واحة، كل جبل، كل بحر… مرآةً لوجه الوطن الذي نحلم به.

هيا نكتب معًا سطرًا جديدًا في كتاب ليبيا، لا بالحبر فقط، بل بالصدق، بالحب، وبالإيمان بأننا نستحق وطنًا يُشبهنا حين نكون في أجمل حالاتنا.

شاهد أيضاً

blank

النائب أمين مسعود يطالب باستبعاد اصحاب المصالح من لجان حصر الايجار القديم

      كتب : سعيد سعده       طالب المهندس أمين مسعود عضو …