اخبار عاجلة

حرباء الواحة قصة قصيرة جديدة للأديب د رمضان العوامي

 

قصه قصيره
————
بقلم
د رمضان العوامي
————

تخاطر…
… تعود آن يتجول بين الحين والآخر بتلك المنطقة الجبلية ذات الغابة المتكاثفة ، والمطلة بعلو شاهق على أودية سحيقة العمق ، والتي سبق آن احتضنت أسلافه… وكانت ملاذا سخيا أمنا عبر غوابر الدهر.
هناك يجد أنسا لا يجده في مكان أخر … حيث تحضره بقوة أيام الصباء … ففي تلك السنوات القصية ، كان يقضي سحابة يومه في تسلق سيقان الشجر بحثا عن أعشاش الطيور … وبدخول المغارات التي يعشش فيها نوعا من الحمام الجبلي الجميل … كان يتابع كل يوم تطور بيض ما عثر عليه في الأعشاش ، وما آن تفقص حتي يستولي علي أفراخها في محاولة فاشلة لتربيتها بالبيت… دون آن يدري إن تلك الطيور لم تخلق كي تدجن … فكانت في النهاية إما آن تموت ، أو تطير وتتركه حين ينمو ريشها بما يكفي للطيران … كان يعبث بالسلاحف ، ويطارد الزواحف الأخرى … ويرشق العصافير بالحجارة … في تجواله ذاك ، كثيرا ما أفزعه علي حين غرة جلجلة أجنحة طائر الحجل فارا منه ، أو قفزة مباغته لأرنب برئ ، اقترب من وكره دون إن يدري … في ذلك الزمن لم يكن يحمل من الهموم شيء.
ولكن رغم تباعد تلك السنين ، إلا إن ذكراها الراسخة في داخله بأدق التفاصيل ، تدفعه بإحساس خفي نحو ذاك المكان ، ليجد بين أرجائه وحدته ، والانسلاخ عن واقع لا يرتضي الكثير من مظاهره .
… في ذلك اليوم أوقف مركبته علي جانب الطريق ، وترجل منها وصعد الأكمة نحو الدغل … الشمس تميل عن كبد السماء في رحلة الغروب ، فيما أشعتها تعانق قمم الأشجار، فتضفي فوق اخضرارها لون اصفر وهاّج فتحيلها الى مشهد أخّاذ… نسمة عذبة تداعب المكان برفق، لاشي يبدد السكون إلا شقشقة عصافير مبتهجة بيومها .
…. أتخذ مساراته بين الأغصان المتشابكة ، مستمتعا بعزلته المؤقتة… ينتابه شئ من الزهو ونسيان واقعه بمجرد ولوجه للمكان ، تتحرر أفكاره في فضاءات تلك السكينة ، أحس بأنه منفك من كل قيد ، وكأنما يسبح في وجود أخر… يقف بين الحين والأخر عندما يجد فسحة بين الأشجار… يجتاحه أحساس مثير بأنها تبوح له بما يشبه حكايا أمه الراحلة … شجن غامر يدفعه لان يعانق تلك الأشجار، ويفضي لها بما في مكنونه … صراعات مضنية في داخله … سيل من الأسئلة الموجعة تنهمر عليه، فيما تنتصب أمامها استفهامات بتحد سافر… يواصل التسكع دون وجهة مقصودة …. يزداد احتدام صراع ما بداخله بفعل حميمية المحيط.
جلس فوق جلمود صخري صلد … تنفس ملئ صدره … ثم زفر… أجال النظر …اغتبطت نفسه بوهج لذيذ ممزوج بشجن دفين… ترأت له الوجوه الوديعة التي غادرت الدنيا… رقّة الجدات… وحنان الأمهات… ومهابة الآباء.
…خيل له إن كل ما حوله وجوه باسمه وعيون دافئة ، تحتضنه بنظرات الود والعطف …… وتحرسه بإخلاص … ود لو يقدم الشكر بطريقة ما… تفحص مفردات المكان بعينين … وذهن شارد .
…لفتت نظره حرباء متشبثة بمخالبها بغصن متدلي علي وجه الأرض ، لم تكن في مواجهته … كانت منتصبة بظهر مقوس تعلوه نتوءات برؤوس مدببة … تكسوها حراشيف خشنة ، وذيل مثل سلك معدن ملتف كالدوامة ، يبدو رأسها كأنه من الحجر تتوسطه عين تدور في كل الاتجاهات … إنها ليست كعيون باقي المخلوقات …كانت منبثقة من ثقب نافر، وملؤها الخداع والعدوان والبرود معا… أو هكذا خيل له… اتخذت من لون الغصن لونا لها…كانت في حاله سكون كامل كأنها محنطه … استرد ذهنه ، وصوب نظره نحوها مدققا في كل تفاصيلها ، فيما تداعت عليه تساؤلات عن هذا المخلوق… ود لو تواصل معها كي تجيبه عن ما يحيره … فيما هي تلمحه بعين تدور داخل ذلك الثقب المتحجر والنافر … أطال التحديق بها وشعر إنها تبادله الحالة… غاب عنه المكان والزمان … وأحس إنها تخاطره بوضوح ، مبادرته بتساؤل:
… لما كل هذا التعجب يا سيدي .. وكأنك تراني للمرة الأولى ؟… بالرغم انك رأيت أمثالي عشرات المرات … بل وطاردت عديد المرات أسلافي ورجمتهم بالحجارة …حينها كنت صبيا شقيا، وما آن تعثر على احدنا حتى تضطره للسير في أماكن مختلفة مستخدما في دفعه عودا من الحطب ، تسومه كل ذلك العذاب كي تتسلى فقط بتبدل لون جلده بلون المكان الذي تسوقه نحوه… كنت تتخذها لعبه … وهي للأسف ليست كذلك … لأنك لو كنت تعلم كيف يتم ذلك الأمر العجيب ، ما ارتكبت تلك العبثية الطائشة … لكن كان ذلك وأنت لم تبلغ الرشد بعد …فهل يمكنك الآن يا سيد الأرض آن تفسر لما كل تلك القسوة بدون سبب أو عدوان عليك ؟ … أم إن فطرتك البشرية هي التي فرضت عليك ذلك مبكرا؟ … لكن دعك من ذلك … ودعني أسألك عن أمر أخر … لما تشّبهون المخادعون منكم بنا؟… ذلك التشبيه ليس صحيح أبدا يا سيدي… نعم نحن تتبدل الوان جلودنا ، ولكن من الخارج فقط… و يشاهد ذلك بالعين المجردة وفي وضح النهار… وذاك ليس خيارنا، أو انه لمجرد المكر والخداع … ، ولكنه الوسيلة التي خلقنا بها للعيش واتقاء شر الاخر.
وليس هذا وحسب … بل انه حين يكون أحدكم وقحا في كلامه … تقولون له إن لسانك طويل مثل لسان حرباء…. نعم لساني طويل ولكنه ليس من اجل اللفظ القبيح … أليس من الظلم يا سيدي هو تشبيهكم لبعضكم بنا بكل ما هو سيء ومعيب ؟
… نعم إنكم تروننا هكذا … لكن المضحك حقا … إنكم لا تدرون كيف نراكم نحن..؟ بل لا يمكنكم ادارك ذلك مهما تقدم علمكم.
تتوقف قليلا عن تخاطره ، ثم تستطرد:
… ليت الأمر توقف عند هذا الحد … بل تعدى الى ماهو ادهي وأمر… الم تستخدموننا في السحر والشعوذة التي تمارسونها علي بعضكم ؟… حيث تقتلون احدنا بكل قسوة ، وتيبسونه بسرية تامة تحت حرارة الشمس ، ثم تجعلوا منه مسحوقا مخلوطا بمواد قذرة لتأتوا به السحر اللعين… لما اخترتمونا لإيذاء بعضكم بهذا العمل المشين؟.
… يا سيدي لا يمكنني آن اسرد كل ما لحقنا من فعلكم… لأنني في عجالة من أمري… ولكن لا ادري لما كرهتموني دون سبب ؟ حتي جعلتم مجرد نطق اسمي مثارا للاشمئزاز والتقزز ومثالا للمكر والخديعة … وأنا بريئة من كل ذلك؟.
ترتفع حدة تخاطرها بقول:
قل يا سيد الارض …ماذا تعرفون عنا ؟… إنكم لا تعرفون عن عالمنا الشيء الكثير، وأكثركم يجهله تماما … لما سرمدية عدوانكم الفعلي والقولي علي مخلوقات مسالمة ، ليس لها ذنب إلا مشاركتها لكم وجه هذه الأرض ؟ … آلا تعلموا إن كل ما عليها خلق من أجلكم ؟ ولكنكم للأسف تجهلون ذلك ؟ … لماذا ترون آن بعض المخلوقات حقيرة أو لعينه أو مجرد رؤيتها نذير شوم… فهل انتم المسئولون عن خلقها ؟..آم إنها تكلفكم العناية بها ؟، أو إنها تضايقكم ….؟ بل ما يحدث هو العكس ، حيث تخلى لكم المكان مبتعدة ، كلما اقتربتم منها.
تتوقف عن التخاطر برهة … تدور عينها دورة كاملة… ثم تلتفت نحوه بكامل رأسها فيبدو له نتأ عينيها بوضوح … ثم تعقب بنبرة هادئة.
… يا سيدي الإنسان ، إن هذا الكون الجميل بأحيائه ونباته وجماده وبحاره وسمائه …خلق من اجل آن يعيش الجميع في سلام … برعاية ومسؤولية الإنسان … نعم انتم المسئولون وحدكم عن هذا العالم بأسره … انه أمانتكم التي لم تحفظوها كما كلفتم، وعبثتم به عبثا كبيرا بدعوى التقدم الحضاري… ولكنكم في الواقع تدفعونه نحو الهاوية عبر الأحقاب ، وخاصة في هذا الزمن…
انتم لا تدركون انه في النهاية العاقبة ستكون وبالا عليكم وحدكم، لا على غيركم….وانتم من ستدفعون الثمن … يا سيدي إن كل ما نراه من أفعالكم ، ليس مثل أقوالكم أبدا … وبعيد كل البعد عن الإنسانية الجليلة التي تتفاخرون بها،… نعم هي فخر كبير ، ولكن أكثركم لا علاقة له بها .
… عذرا سيدي فان عجالتي وقيمة الوقت عندي تجعلني اضطر لمغادرتك دون ان افرغ كل ما في صدري … ولكن أود ان اختم تخاطري معك بما يثير دائما التعجب عندي… وهو إنكم تصفون الهمج والمتوحشون منكم بالحيوانية … في الوقت انها ليست كذلك … لقد وقعتم في خطاء التشبيه مرة أخرى!!! .
تستدير بوجهها عنه … تترجل متمهلة من على الغصن ، ممده بيدها برفق نحو الأرض ، وتنزل بقية أرجلها ببطء … تسير خطوات فوق التراب ، وتحرر ذيلها فيتمدد جارا خلفها … يتلون جلدها فورا بلون الأديم … وهو يرقبها بدهشة كبيره فاغرا فاه كأنه يراها أول مرة … يقف و يصرخ خلفها محاولا رد اعتباره قائلا:
…أبعد كل هذه الانتقادات … تنسي آن تلقى السلام عند انسحابك ؟
تلتف نحوه وتخاطره بسخرية ممزوجة بحنق:
السلام !!!… وما أدراك ما لسلام يا سيدي ؟… عيبكم دائما نسيان عيوبكم … فهل يعرف السلام من يفسد في الأرض… ويسفك الدماء ؟.
…تواصل مشيها المتأني وتختفي عن نظره بين حشائش في حضن شجيره … يرفع بصره نحو الأشجار التي حوله … يشعر بحرج شديد … يتمني إنها لا تدرك ما خاطرته به الحرباء … ينتابه ذهول ممزوجا بخجل وقصور … يدور حول نفسه … تتبعثر بداخله وبشكل قهري أشياء كثيرة …يحس انه لم يعد مسيطرا علي شيء…. ينظر نحو الجلمود الصخري …. يتمنى لو آن يكون مثله … يغادر المكان كالمهزوم ومطاردا بقوة خفية.
البيضاء في ربيع 2016م

شاهد أيضاً

blank

غدًا.. أولى حلقات مسلسل “البيت بيتي ٢” وخلود ياسر تكشف عن ملامح شخصيتها في الموسم الثاني

كتب : هند عادل كشفت الفنانه الشابة خلود ياسر في تصريحات خاصة لموقع “…..”، ومع …